في خطوة منسقة أظهرت إدانة الغرب للنظام العسكري في ميانمار، فرض عليه الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا الشهر الماضي حزمة جديدة من العقوبات، وجاء هذا الإجراء إثر تقارير تفيد بتكثيف الحكومة العسكرية حملتها القمعية ضد المدنيين، وارتكابها عمليات قتل ممنهجة ومتصاعدة، ترقى وفي كثيرين إلى جرائم ضد الإنسانية.
وبينما تهدف العقوبات إلى معاقبة النظام العسكري ومنعه من الحصول على أدوات اساسية تمكنه من الاستمرار في فرض سيطرته العنيفة، تظل الأسئلة عالقة بشأن فعالية هذه العقوبات في الضغط على المجلس العسكري وتأثيرها على قدرته على ممارسة العنف.
وفي ظل وقوع ميانمار حالياً تحت وطأة أحد أكثر الدكتاتوريات العسكرية قمعاً في الذاكرة الحديثة، تأتي جولة العقوبات كمحاولة لعزل المجلس العسكري دولياً.
ولكن يظهر التاريخ أن العقوبات قد تحد من بعض الأنشطة لكنها غالباً ما تفشل في خلق الضغط السياسي اللازم لإحداث تغيير حقيقي، وفي حالة ميانمار سيكون تحقيق مثل هذه النتيجة أكثر صعوبة نظراً لقدرة النظام على التكيف واحتفاظه بعلاقات عميقة مع القوى الإقليمية الداعمة.
فمنذ الانقلاب العسكري عام 2021، اتخذ جيش ميانمار خطوات سريعة لتفكيك أي مقاومة ديمقراطية، فواجه التظاهرات السلمية بقمع وحشي واعتقالات وحملة لشيطنة كل من يعارض حكمه، واستمرت حملة المجلس العسكري في التصعيد بقتله أكثر من 4 آلاف مدني بينهم عشرات الأطفال، فيما تم إخضاع آلاف آخرين للاحتجاز القسري والتعذيب والعمالة الجبرية.
وأوضحت جماعات حقوق الإنسان والصحفيون أن جيش ميانمار انتقل من الحرب التقليدية إلى طرق أخرى ترتبط بالدولة البوليسية التي ترهب مواطنيها في محاولة لترسيخ السيطرة المطلقة.
وترسم التقارير التي تفيد بحرق القرى وتنفيذ إعدامات ميدانية ونزوح واسع النطاق صورة مرعبة لدولة راغبة في استخدام العنف بلا ضوابط، وفي الأشهر الأخيرة أجبرت هذه الوحشية المتزايدة الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا على التدخل بشكل أكثر حزماً، حيث أكدت العقوبات الأخيرة على التزامهم بمحاسبة المجلس العسكري.
وتستهدف العقوبات شركات مرتبطة بالتكتلات العسكرية في ميانمار، وخاصة شركة ميانمار الاقتصادية وشركة ميانمار الاقتصادية القابضة المحدودة، اللتين وفرتا للمجلس العسكري عائدات مالية كبيرة لتمويل عملياته.
كما تحظر العقوبات أيضاً تصدير المكونات الحيوية لأنظمة الأسلحة إلى ميانمار، وكذلك التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج التي يمكن إعادة استخدامها لأغراض المراقبة أو الحرب الإلكترونية أو العمليات العسكرية.
ولهذه العقوبات هدف مزدوج، فهي من ناحية تهدف إلى التضييق على المجلس مالياً وقطع موارد تمويل حملته القمعية، ومن ناحية أخرى تسعى إلى تقليص قدرة الجيش على الحصول على التكنولوجيا والمعدات التي تحسن من قدراته الهجومية وأعمال المراقبة.
ونظرياً، يفترض أن يعمل هذا المزيج على إحباط عمليات المجلس العسكري، وإجباره على تحويل تركيزه إلى موارده المتناقصة بدلاً من التركيز على ممارسة القمع السياسي.
وتثير مدى فعالية العقوبات ضد الأنظمة الاستبدادية جدلاً كبيراً؛ ففي حين يمكنها خلق أعباء اقتصادية وعقبات لوجستية، أظهر جيش ميانمار قدرة شبه خارقة على عزل نفسه عن الضغوط الدولية، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى علاقاته الراسخة مع حلفاء أقوياء مثل الصين وروسيا، اللتين عملتا باستمرار على تقويض جهود الغرب لعزل ميانمار، وتقديم الدعم المباشر والقنوات غير المباشرة لتوفير السلع الخاضعة للعقوبات.
ولطالما كانت الصين التي تتشارك حدوداً جغرافية طويلة مع ميانمار حليفاً أساسياً للمجلس العسكري، وقد منحت هذه العلاقة جيش ميانمار القدرة على الحصول إلى الإمدادات والموارد وحتى الدعم الاستخباراتي من أجل الصمود في وجه عاصفة التدقيق الدولي.
وعلى نحو مماثل، زودت سياسة الأذرع المفتوحة التي تنتهجها روسيا جيش ميانمار بالمعدات العسكرية الأساسية والخبرة اللازمة، فباتت المروحيات والطائرات النفاثة وأنظمة المدفعية الروسية الصنع تلعب دوراً مهماً في حملة القمع، وطالما توفر هذه الدول قنوات بديلة فإن تأثير العقوبات الغربية سيظل محدوداً.
وعلاوة على ذلك، تتداخل التكتلات العسكرية في ميانمار في كل قطاعات الاقتصاد تقريباً، ما يوفر للجيش التمويل عبر الوسائل المحلية في ظل تراجع الأعمال التجارية الدولية، كما طور الجيش شبكات معقدة للتهريب وتجارة السوق السوداء، مما يجعله ماهراً في التحايل على القيود والحصول على الموارد بشكل غير مشروع.
ورغم أن العقوبات الاقتصادية قد يكون تأثيرها محدوداً على القدرات المادية للجيش، إلا أنها قد تعمل على إضعاف المجلس العسكري سياسياً، إذ يهدد العزل الدولي بتقويض الشرعية الداخلية التي يعتمد عليها الجيش للحفاظ على هيمنته.
كما أنه عبر تحالفه علناً مع الدول المنبوذة، بينما يستهدفه الغرب بالعقوبات، يعمل دون قصد على تآكل مكانته بين سكان ميانمار، ومع استمرار معاناة عامة الناس من الصعوبات الاقتصادية يتنامى الاستياء ضد الجيش، كما قد تعمل العقوبات المطولة على زيادة المعارضة المحلية خاصةً إذا ساهم العزل الاقتصادي في التضخم ونقص الغذاء وانهيار الاقتصاد.
إن أحد الجوانب الرئيسية التي كثيراً ما يتم إغفالها في أنظمة العقوبات هو الحاجة لتقديم الدعم للمقاومة الديمقراطية داخل ميانمار، فحكومة الوحدة الوطنية (المعارضة)، ومنظمات المقاومة العرقية هي أصوات الشعب، ويتعين على الدول الغربية أن تفكر في تقديم المساعدات المالية واللوجستية لها، مما يسمح لها ببناء قوة مضادة للمجلس العسكري من الداخل.
وبالنسبة لشعب ميانمار، الذي واجه أكثر من ثلاث سنوات من العنف المستمر من جانب الدولة، فإن مثل هذا الدعم قد يكون لا يقدر بثمن.
*(الكاتب: الدكتور عظيم إبراهيم: هو مدير المبادرات الخاصة في معهد نيولاينز للاستراتيجية والسياسة في واشنطن العاصمة، نشر المقال في موقع “عرب نيوز” وترجمته وكالة أنباء أراكان)