طوال عقود تعرض الروهينجا للاضطهاد والنزوح، وعندما وصل العنف ضدهم إلى ذروته في عام 2017، فر أكثر من مليون منهم إلى بنغلادش بحثاً عن ملاذ آمن يحميهم من “عمليات التطهير”، وتحت وطأة الارتباك والتعاطف في الوقت نفسه فتحت بنغلادش حدودها، لكن الضغوط على اقتصادها وبنيتها الأساسية ونسيجها الاجتماعي قد استمرت في التزايد كما تقول السلطات هناك.
وفي ظل بحثها اليائس عن حلول لأزمة الروهينجا، تبنت دكا فكرة إنشاء مناطق آمنة في ولاية راخين (أراكان) وهو الاقتراح الذي تقدمت به أولاً الشيخة حسينة ويدفعه للأمام خليفتها الحالي محمد يونس (رئيس وزراء بنغلادش المؤقت).
تبدو الفكرة منطقية، فإذا أمكن للاجئي الروهينجا العودة بأمان إلى مناطق آمنة في وطنهم فستخف الكثير من الضغوط عن بنغلادش، إلا أن هذه الرؤية المتعلقة بخلق مناطق آمنة تبدو سراباً أكثر منها علاجاً، فهي لا تأخذ في الاعتبار دروس التاريخ والحقائق القاسية على الأرض في ميانمار.
إن تاريخ المناطق الآمنة تاريخ أسود، فقد تحولت هذه المناطق في رواندا والبوسنة إلى مسرحاً للرعب وليس ملاذاً آمناً، ففي عام 1994 فشلت المناطق الآمنة التي حددتها الأمم المتحدة في رواندا في منع الإبادة الجماعية التي حصدت أرواح مئات الآلاف، فقد عطلتها القيود على تفويضها وعدم جاهزية قوات حفظ السلام.
وتمثل مذبحة سربرنيتسا في عام 1995 مثالاً صارخاً على فكرة تحول منطقة آمنة معلنة أممياً إلى فخ للموت لأكثر من 8 آلاف رجل وطفل مسلم ذبحوا بينما يشاهد المجتمع الدولي عاجزاً، وتكشف هذه الإخفاقات العيوب الهيكلية في مفهوم المنطقة الآمنة، فبدون إنفاذ قوي وتفويضات واضحة وموارد كافية فإن المناطق الآمنة لا توفر الحماية بل تجمع الضعفاء لتسهيل استهدافهم.
أما عن السياق في ولاية أراكان فإنه يجعل إقامة مناطق آمنة أكثر خطورة، فهي ليست منطقة صراع مجمد أو سلام هش بل هي بمثابة نقطة صراع ذات عداوات متداخلة حيث يتنافس على السلطة جيش ميانمار وجيش أراكان وجماعات روهنجية مسلحة مثل جيش إنقاذ روهينجا أراكان (ARSA) ومنظمة التضامن مع الروهينجا (RSO)، كما أن جيش أراكان الذي طرح كمدير محتمل لتلك المناطق له تاريخ من العداء تجاه الروهينجا واستهدافهم بالنزوح القسري والعنف، وبالنسبة إلى الروهينجا فإن الثقة في جيش أراكان باعتباره حامياً لهم أمر لا يمكن تصوره حيث تظل ذكريات تعرضهم للرعب على يديه حية في أذهانهم.
وحتى بعيداً عن العلاقات المتوترة بين هذه الفصائل المسلحة فإن العقبات اللوجستية والسياسية ضخمة، فمن غير المرجح أن يسمح جيش ميانمار الراسخ العنيد لأي قوة دولية أو محلية بإدارة أراضي داخل الحدود، ويرى الجنرالات في ميانمار أن السيادة أمر مقدس، كما أن أي اقتراح ينتهك سيطرتهم -وخاصة إذا كان يشمل جيش أراكان المناوئ لهم ـ سوف يقابل بالرفض الصريح، وبدون موافقة جيش ميانمار لا يمكن إنشاء منطقة آمنة أو حتى ضمان استدامتها.
كما أن لوجستيات المساعدة الإنسانية تضيف المزيد من التعقيد للمشهد، فجيش ميانمار له سجل حافل في تقييد وصول المساعدات إلى مناطق الصراع واستخدام حظر الغذاء والدواء والمأوى كسلاح، وحتى إن تم إنشاء مناطق آمنة فإن وكالات الإغاثة الدولية ستواجه مصاعب كبرى في توصيل المساعدة بشكل موثوق، وستكون الظروف في هذه المناطق مماثلة لما هي عليه الآن في المخيمات المكتظة فقيرة الموارد المنتشرة في منطقة “كوكس بازار” في بنغلادش حيث يتفاقم اليأس ويتلاشى الأمل.
وقد حذرت منطمة “هيومن رايتس ووتش” من التوهم أن جيش ميانمار سيسمح لمثل هذه المناطق أن تكون ملاذات آمنة بالفعل، مشيرةً إلى مخاطر تحول المناطق الآمنة إلى أدوات لتعريض الروهينجا لمزيد من التهميش والمعاناة.
ويمكن النظر إلى دعوة بنغلادش المستمرة لإقامة مناطق آمنة باعتبارها لفتة دبلوماسية وليست سياسة واقعية، فهي تحافظ على وجود أزمة الروهينجا على الأجندة العالمية وتلمح إلى المجتمع الدولي بأن دكا تتخذ موقفاً مبادراً وليس سلبياً، ولكن المناطق الآمنة بتصورها الحالي لا يمكنها النجاح، والأسوأ من ذلك أنها تخاطر بتعميق الأزمة، وإذا فشلت هذه المناطق في حماية الروهينجا أو أصبحت نقاط اشتعال لمزيد من العنف فسوف يسعى اللاجئون المحبطون حينها إلى البحث عن الأمان في مكان آخر وسيكون على الأرجح عبر حدود بنغلادش، وهو ما يزيد من الضغوط على الدولة المضيفة التي تعاني بالفعل من ضغوط كبيرة.
إن البدائل التي طرحت أخيراً للمنطقة الآمنة، مثل اقتراح يانغي لي (مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في ميانمار) بإنشاء ممر إنساني تحت سيطرة جيش أراكان، تعد معيبة بالقدر نفسه، فإدارة جيش أراكان لمثل هذا الممر تفتقر إلى الشرعية في نظر الروهينجا والمجتمع الدولي على حدٍ سواء، كما يمكن أن يستغل جيش أراكان هذا الممر كأداة سياسية ويستخدم الروهينجا كوسيلة ضغط في صراعه الأوسع مع جيش ميانمار.
ومثل هذه الخطط على الرغم من إبداعها تفشل في معالجة القضية الأساسية، فالروهينجا يحتاجون إلى الحماية والكرامة وضمان الحقوق في وطنهم وليس إخضاعهم لتجارب الحكم من قبل أولئك الذين اضطهدوهم عبر التاريخ.
إن التركيز على المناطق الآمنة والمقترحات المماثلة ينتقص من الحلول الأكثر قابلية للتحقيق، ويجب على المجتمع الدولي أن يكثف الضغوط على ميانمار لخلق الظروف المواتية للعودة الآمنة والطوعية للروهينجا، ويعني هذا معالجة الأسباب الجذرية المؤدية التي أدت لنزوحهم وهي حرمانهم من الجنسية والحقوق الأساسية وإفلات جيش ميانمار من العقاب، ولابد أن يتجاوز الضغط الدبلوماسي والاقتصادي على ميانمار الكلام الخطابي وأن يبرز ارتباط وجود عواقب بمدى التقدم المحرز في قضية الروهينجا.
وفي الوقت نفسه، تحتاج بنغلادش المزيد من الدعم الدولي لإدارة الأزمة الحالية، فلا يمكنها حمل العبء بمفردها بالنظر إلى استضافتها أكبر مخيم للاجئين في العالم، كما أن المساعدات المالية وتطوير البنية الأساسية ووضع استراتيجيات طويلة الأجل متعلقة بتعليم اللاجئين وعملهم تشكل أهمية بالغة، كما أن هذه التدابير لا تعد بديلاً عن إعادة اللاجئين إلى أوطانهم بل هي اعتراف بأن الحل الدائم سوف يستغرق سنوات وليس شهوراً.
إن أزمة الروهينجا تتطلب نهجاً واقعياً يقوم على الحقوق، أما المناطق الآمنة المغرية في بساطتها فهي لا تقدم أياً من ذلك، بل هي كجرد أوهام خطيرة تعد بالأمن وتهدد بالكارثية.
وبالنسبة لبنغلادش والروهينجا والمجتمع الدولي، فلابد أن يتحول التركيز إلى حلول مستدامة تعالج أعراض وأسباب هذه المأساة التي طال أمدها، وحينها فقط سيتحقق للروهينجا الأمان والعدالة والكرامة في وطنهم.