المنسيون: أزمة الروهينجا وفشل العالم في التصرف

مخيم للاجئي الروهينجا في منطقة كوكس بازار في بنغلادش (صورة: الجزيرة)
مخيم للاجئي الروهينجا في منطقة كوكس بازار في بنغلادش (صورة: الجزيرة)
شارك

تواجه أقلية الروهينجا المسلمة في ميانمار ما وصفته الأمم المتحدة بأنه “مثال واضح على التطهير العرقي”، ورغم هذه الإدانة القوية إلا أن الجهود الدولية فشلت في منع أو تخفيف وطأة الفظائع المستمرة بحقهم، وتكشف محتة الروهينجا لا تكشف الصراعات العرقية والدينية المتجذرة في ميانمار فحسب بل تلقي الضوء أيضاً على الفجوات الكبرى في آليات المساءلة العالمية.

فقد حمت الصين جارتها الشمالية المؤثرة وشريكها الاقتصادي الهام (ميانمار) من الضغوط الدولية عبر دورها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ما أدى إلى تعقيد الجهود الرامية إلى معالجة الأزمة، ومع استمرار حكومة ميانمار المدعومة من الجيش في سياسات التهجير القسري والحرمان من الجنسية والعنف الممنهج ضد الروهينجا فإن الأزمة تشير إلى أن المجتمع الدولي غير قادر -أو غير راغب- على التدخل لوقف الإبادة الجماعية داخل الحدود السيادية للبلاد.

أزمة متجذرة في التاريخ

بعد استقلال ميانمار عن الحكم البريطاني في عام 1948 كان مسار البلاد نحو الديمقراطية محفوفًا بالعقبات، وواجهت الحكومة آنذاك تحديات في اللحظات التأسيسية لديمقراطيتها ومنها الانقسامات العرقية وعدم الاستقرار السياسي والتحديات الاقتصادية والنفوذ العسكري والجغرافيا السياسية للحرب الباردة.

وفي عام 1962، أسس انقلاب بقيادة الجنرال “ني وين” نظاماً اشتراكياً أرسى أسس للاضطهاد العرقي، وأدت سياسات الدولة في ظل هذا النظام إلى تآكل حقوق الروهينجا تدريجياً حيث تدهورت حرياتهم في ظل حكومة اعتبرت التنوع العرقي تهديداً مزعزعاً للاستقرار، واستبعد قانون المواطنة لعام 1982 الروهينجا رسيماً من 135 مجموعة عرقية معترف بها في ميانمار، ما جعلهم عديمي الجنسية في نقطة تحول هامة، وبعد تجريدهم من الجنسية أصبحت هذه الأقلية المسلمة مهمشة اجتماعياً وقانونياً وعرضة للانتهاكات دون أي سبيل لإنصفها بموجب القانون.

بررت ميانمار رفضها لوجود الروهينجا بادعاءات متعلقة بالتغيرات الديموغرافية إبان العصر الاستعماري، فيزعم مسؤولوا ميانمار الحاليون أن فترة الحكم البريطاني عام 1826 شهدت تشجيعاً للهجرة على نطاق واسع بهدف زيادة العمالة في مناطق الزراعة وزيادة أرباح الإمبراطورية البريطاني، ما جعل هؤلاء المستقدمون غرباء عن أرض ميانمار. ومع ذلك يستشهد المدافعون عن الروهينجا بسجلات تاريخية تؤكد وجودهم في الأرض قبل الحكم البريطاني، ورغم هذه الأدلة فإن الحكومة تتمسك بموقفها وتؤكد أن الروهينجا يمثلون تهديداً وجودياً للثقافة البورمية والمجتمع ذي الأغلبية البوذية.

وأدى هذا الموقف الإقصائي إلى تأجيج عقود من الاضطهاد، فبدءاً من عام 1978 أدت عمليات قادتها القوات العسكرية مثل “عملية الملك التنين” و”عملية أمة نظيفة وجميلة” إلى تهجير الآلاف من الروهينجا قسراً، فيما عكفت حكومة ميانمار على نفي التقارير التي تحدثت عن العنف الشديد، بما في ذلك عمليات الاغتصاب الجماعي وحرق القرى والقتل الجماعي، وقد أقرت النتائج التي توصل إليها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الفظائع التي تقودها الدولة وأنها تفي بأركان تعريف الإبادة الجماعية، ورغم امتلاك المجتمع الدولي أدلة واشحة على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية إلا أنه يفتقر إلى الإجماع اللازم للتدخل الفعال لحماية سكان الروهينجا.

بنغلادش: أزمة لاجئين على الهاوية

مع تصاعد اضطهاد ميانمار للروهينجا اضطروا إلى الفرار في موجات بحثاً عن ملجأ في بنغلادش التي تعد الدولة الأكثر كثافة سكانية في العالم، وتؤوي بنغلادش حالياً أكثر من مليون لاجئ من الروهينجا يواجهون قيوداً على الحصول على العمل والتعليم، وبالنسبة لبنغلادش فإن تدفق اللاجئين يضغط على الموارد في مناطقها الجنوبية الشرقية ما يفاقم التوترات بين اللاجئين والمجتمعات المحلية.

وقد أدى التكدس والفقر ونقص الموارد إلى زعزعة استقرار المنطقة الهشة بالفعل، كما أدى وجود الجماعات المسلحة داخل المخيمات ومنها جيش إنقاذ روهينجا أراكان (ARSA) ومنظمة تضامن الروهينجا (RSO) إلى تصعيد المخاوف الأمنية، كما تزايدت التقارير عن عمليات القتل وتصارع الفصائل الإجرامية للسيطرة على طرق تهريب البشر والمخدرات داخل المخيمات، وبالإضافة إلى ذلك تضيف التوترات عبر الحدود مع ميانمار إلى التحديات الأمنية التي تواجه بنغلادش حيث تتعرض حياة السكان المحليين للخطر جراء حوادث القصف والاشتباكات المسلحة بالمناطق الحدودية والتي تهدد أيضاً بتدفق المزيد من اللاجئين.

وتغيرت ردود الفعل المحلية تجاه أزمة اللاجئين بمرور الوقت، ففي البداية كانت المجتمعات البنغلادشية متعاطفة مع محنة الروهينجا ولكن مع تصاعد الضغوط الاقتصادية تزايدت المشاعر المعادية تجاههم واستهدفت بعض الجماعات الروهينجا بالعنف والمضايقات بسبب إحباطها من المنافسة المتزايدة على الموارد وحزم المساعدات، كما تفيد تقارير بأن بعض الجماعات قادت جهوداً لدفع الروهينجا للخروج من بنغلادش معتبرة إياهم عبئاً على موارد الرزق والاستقرار، ويؤكد رد الفعل العنيف هذا الحاجة إلى التخفيف العاجل من حدة الصراع لتجنب تفاقم التوترات بين الروهينجا والمجتمعات المضيفة.

ويعكس هذا السيناريو اتجاهاً أوسع نطاقاً في كافة الأزمات العالمية، حيث تتحمل البلدان المجاورة العبء الأكبر من تدفقات اللاجئين الضخمة وتواجه ضغوطاً اقتصادية كبيرة ومخاطر أمنية محتملة، وقدمت منظمات الإغاثة الدولية ومنها الأمم المتحدة وبرنامج الأغذية العالمي دعماً محدوداً من الإمدادات الغذائية والرعاية الصحية والخدمات التعليمية المؤقتة للاجئين في مخيمات بنغلادش، ومع ذلك فإن الدعم الدولي يتضاءل مع تقليص المنظمات الإنسانية خدماتها الحيوية، وفي نهاية المطاف ودون تقديم حلول طويلة الأجل ستظل بنغلادش عرضة لتداعيات السياسات الداخلية لميانمار وتستمر الأزمة المحلية لميانمار في النمو خارج حدودها.

نفوذ الصين وتقاعس العالم

تمارس الصين باعتبارها جارة ميانمار الشمالية والمستثمر الرئيسي فيها نفوذاً كبيراً في المنطقة، وقد أدى استثمار الصين إلى تفاقم الصراع، وتوفر مشاريع البنية التحتية الكبرى مثل الممر الاقتصادي بين الصين وميانمار وخطوط أنابيب الغاز والنفط حوافز اقتصادية لحكومة ميانمار وجيشها للحفاظ على السيطرة على المناطق الغنية بالموارد على حساب الأقليات العرقية، كما تتجاهل هذه الاستثمارات المجتمعات المحلية مما يؤدي إلى تأجيج الاستياء وتعميق المظالم التي تساهم في عدم الاستقرار الإقليمي، وعبر إعطاء الأولوية للمشروعات الاقتصادية على حساب المخاوف الإنسانية، تدعم الصين بشكل غير مباشر سياسات ميانمار المتمثلة في الإقصاء والاضطهاد.

ولطالما لعبت الصين دوراً في الدفاع عن ميانمار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ويشمل هذا الدعم استخدام حق النقض ضد القرارات التي تدعو ميانمار إلى إطلاق سراح السجناء السياسيين والانخراط في الحوار ووقف الهجمات العسكرية وانتهاكات حقوق الإنسان ضد الأقليات العرقية، وقد سمح هذا الدرع الدبلوماسي لقادة ميانمار بمواصلة السياسات القمعية دون خوف يذكر من العواقب الدولية، وبالتالي تعزيز إفلات الجيش من العقاب وتشجيع المزيد من الحملات القمعية ضد الأقليات العرقية.

ومن الجدير بالملاحظة التشابه الكبير للانتهاكات السابقة بتعامل الصين نفسها مع أقلية الويغور المسلمة في “شينجيانغ” حيث أثارت سياسات الاحتجاز الجماعي والعمل القسري والمحو الثقافي إدانة دولية، ويمكن تفسير إحجام الصين عن مواجهة انتهاكات ميانمار على أنه خيار استراتيجي لتجنب التدقيق في سجلها في مجال حقوق الإنسان، وتضمن بكين من خلال الدفاع عن ميانمار أن تظل المعايير الدولية المتعلقة بالتطهير العرقي والاضطهاد ضعيفة التنفيذ وهو ما يخدم مصالحها المحلية.

وعلى النقيض من ذلك، ردت الولايات المتحدة والدول الأوروبية بفرض عقوبات فعلى سبيل المثال، يفرض “قانون ماغنيتسكي العالمي” قيوداً على السفر والمعاملات المالية للمسؤولين العسكريين المتورطين في أعمال العنف. ومع ذلك، كان لهذه التدابير تأثير محدود: إذ يظل القادة العسكريون والنخب في ميانمار معزولين بسبب العلاقات الاقتصادية القوية مع الصين وروسيا ما يوفر شبكات تجارية ومالية بديلة.

طريق محتمل للمضي قدماً؟

وعلى الرغم من الأدلة الواضحة على العنف الممنهج امتنع المجتمع الدولي إلى حد كبير عن وصف الأزمة بالإبادة الجماعية، متجنباً مبدأ المسؤولية عن الحماية الذي من شأنه أن يلزمه باتخاذ إجراءات لحماية الروهينجا، وينص المبدأ الذي تبنته الأمم المتحدة عام 2005 على أن المجتمع الدولي ملزم بالتدخل عندما تفشل دولة ما في حماية سكانها من الإبادة الجماعية أو جرائم الحرب أو التطهير العرقي أو الجرائم ضد الإنسانية، ولاستدعاء هذا المبدأ لحماية الروهينجا يجب على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أن تتجاوز الإدانة الفارغة وتتخذ تدابير ملموسة بما في ذلك التدخل العسكري وهو ما تتردد العديد من الدول في القيام به.

إن هذا الإحجام عن التصرف يلقي الضوء على نمط مزعج من العبر والدروس المتجاهلة من فظائع الماضي، حيث طغت المصالح الجيوسياسية مراراَ وتكراراَ على الحتميات الإنسانية، وتعكس أزمة الروهينجا فشل العالم في الالتفات للتحذيرات التاريخية ما يسمح للفظائع التي ترعاها أي دولة بالاستمرار تحت ستار احترام الحدود السيادية، وهذا الجمود لا يؤدي فقط إلى استمرار معاناة الروهينجا بل يضعف مصداقية المعايير الدولية التي تهدف بالأساس إلى منع هذه المآسي.

ومن المرجح أن يتطلب التوصل إلى حل للصراعات العرقية والدينية في ميانمار أكثر من مجرد الضغط الدولي، نظراً لطغيان النزعة القومية التي تغذي المشاعر المعادية للروهينجا، ما يجعل الإصلاح الداخلي أمراً ضرورياً، ولأن العقوبات المستهدفة كان لها تأثير محدود كما أن العقوبات واسعة النطاق قد تدفع ميانمار نحو المدار الصيني، لذا يتعين على المجتمع الدولي أن يفكر في اتباع نهج متعدد الأوجه.

إحدى الاستراتيجيات التي يمكن اللجوء إليها هي تعزيز المشاركة الدبلوماسية من خلال المنظمات الإقليمية مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، والتعاون مع دول الجوار، ويستطيع المجتمع الدولي أن يمارس ضغوطاً بشكل جماعي على ميانمار لتشجيع الإصلاحات الداخلية وتعزيز الحوار بين الحكومة والأقليات العرقية، إذ يشكل دعم الحركات الشعبية ومنظمات المجتمع المدني في ميانمار مساراً بالغ الأهمية، ومن الممكن أن يؤدي تمكين الأصوات المحلية المدافعة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى تعزيز التغيير الداخلي، كما قد يمكن أن يؤدي توفير الموارد والتدريب والمنصات لهذه المجموعات إلى تعزيز قدرتها على إفادة مستقبل البلاد.

وأخيرا، فإن نفوذ الصين يستلزم مشاركتها في حل الأزمة سواء يعني ذلك دعم التدخل الغربي بالكامل أو مجرد الموافقة على قرارات مجلس الأمن لتعبئة الجهود الدولية لمكافحة الإبادة الجماعية، ورغم أن إقناع الصين بالانخراط في الجهود متعددة الأطراف سيكون صعباً إلا أنه ليس مستحيلاً، ويتعين على المجتمع الدولي أن يبرز كيف يقوض عدم الاستقرار في ميانمار الاستثمارات الإقليمية والأهداف الاستراتيجية طويلة الأجل لبكين، وقد يسهم إبراز المخاطر التي تهدد المشاريع الضخمة مثل الممر الاقتصادي بين الصين وميانمار في أن تدرك الصين أن لها مصلحة كبرى في تحقيق الاستقرار الإقليمي، كما يجب أن يسطع بطل داخل المجتمع الدولي ليؤكد على أهمية إنهاء هذه الإبادة الجماعية والعمل بشكل تعاوني مع الصين لتعبئة الجهود الدولية الفعالة.

إن أزمة الروهينجا هي بمثابة لحظة حاسمة بالنسبة للولايات المتحدة لكي تفكر في القضايا التي تتجاوز الحدود الوطنية مثل الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، كما أن أزمة الروهينجا تسلط الضوء على العقبات أمام التصدي للفظائع التي ترعاها الدولة داخل الحدود السيادية، وفي عالم تتحقق به العولمة، يمكن للدبلوماسية والهياكل الاقتصادية والتحالف الملتزم من الدول الراغبة في تأييد السلام أن تنشئ الحد الأدنى من الظروف اللازمة لتحقيق الأمن والاستقرار، وبدون العمل الجماعي فإن العنف المنهجي الذي تمارسه ميانمار ضد الروهينجا سيظل شهادة صارخة على إخفاقات التدخل الدولي ــوهي مأساة ليس فقط للروهينجا بل وأيضاً لقيم حقوق الإنسان والأمن العالمي.

(نشرت المقال مجلة جورج تاون للدراسات الأمنية (GSSR) وهي المجلة الأكاديمية الرسمية لمركز الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون الأمريكية وتهتم بنشر وجهات النظر المختلفة حول قضايا الشؤون الدولية، وترجمته وكالة أنباء أراكان)

شارك
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لوكالة أنباء أراكان

آخر الأخبار

القائمة البريدية

بالضغط على زر الاشتراك، فإنك تؤكد أنك قد قرأت سياسة الخصوصية الخاصة بنا.