لأن أحداً لم يسأل.. أرشفة الماضي الروهنجي

أعداد من الروهينجا خلال فرارهم من أراكان جراء الإبادة باتجاه حدود بنغلادش في 19-7-2017 (صورة: Reuters)
أعداد من الروهينجا خلال فرارهم من أراكان جراء الإبادة باتجاه حدود بنغلادش في 19-7-2017 (صورة: Reuters)
شارك

بقلم: ناصف فاروق أمين

بدأ الأمر بسؤال، سؤال يأتي بهدوء، يكاد يشبه تنهيدة، “غريغ كونستانتين”، المصوّر الصحفي والوثائقي الأمريكي الذي قضى ما يقرب من عقدين في توثيق محنة الروهينجا، جلس داخل كوخ من الخيزران في كوكس بازار، يميل بجسده نحو رجال مسنّين كانوا يحملون أكياساً بلاستيكية مليئة بماضيهم، وثائق هشة وصور باهتة وشهادات طُويت وأُعيد طيها حتى غدت طياتها أقدم من الورق نفسه، سألهم وكأنه سؤال عابر لماذا لم تعرضوا هذه الأشياء على أحد من قبل؟، جاء الجواب قصيراً، مدمراً، كأنه همس من أشباح: لأن أحداً لم يسأل.

تلك العبارة وحدها حملت ثقل المنفى، شرحت عقوداً من التغييب، من الصمت داخل الأرشيف، ومن تجاهل العالم الذي مرّ دون أن يتوقف لينظر، نعم جاء صحفيون ومحامون وباحثون بلوحات قصاصات ومسؤولو أمم متحدة بأحرف مختصرة ومواعيد نهائية، لكن أسئلتهم كانت دوماً عن الخراب متى جاء الجنود؟ كم بيتاً أُحرق؟ كم شخصاً قُتل؟ ولم تكن أبداً ماذا حملتم معكم؟ ماذا بقي من حياتكم؟ وهكذا ظلّت الأرشيفات وصكوك الأراضي وصور العائلة وشهادات الميلاد والمدارس والزواج بلا طلب بلا اعتراف بلا ظهور.

في كوكس بازار ببنغلادش، أكبر مخيم للاجئين في العالم حيث يعيش ما يقرب من مليون روهنجي حياة محصورة في الحصص الغذائية والدوريات والانتظار، تنهار أكواخ الخيزران مع الأمطار الموسمية، وتعود الحرائق كأنها لعنات، بلا دولة ولا اسم يكبرون بلا جنسية، بلا مستقبل.

إن معاناتهم ليست مجرد نزوح بل محو أرشيفي، ميانمار تنكر انتماءهم، بنغلادش تستضيفهم لكن ترفض دمجهم، والعالم يقدم المساعدات لكن بلا اعتراف، يُتحدث عن الروهينجا كعبء وكأزمة وكرقم إحصائي، نادراً ما يُنظر إليهم كبشر، نادراً ما يُنظر إليهم كتاريخ.

هذا الصمت الطويل هو ما سعى معرض “إيك خالي: كان يا مكان” إلى مواجهته، جرى تنظيمه من قبل مركز السلام والعدالة بجامعة BRAC في دكا، وأشرف على تنسيقه غريغ كونستانتين، استمر المعرض عشرة أيام، من 18 إلى 28 أغسطس 2025، ولم يكن مجرد معرض فني بقدر ما كان استعادة للذاكرة، ومحاولة لإعادة تجميع حياة شعب مبعثرة في صورة مرئية وكريمة.

على مدى عقود، صُور الروهينجا في إطار الضحية، ويعترف كونستانتين نفسه أن عدسته، وعدسات أقرانه، ساهمت في ترسيخ تلك الهوية البصرية المسيرات عبر الأنهار، الأمهات اللواتي يعانقن الرضّع، الأكواخ الهزيلة على التلال العارية، نعم كانت هذه الصور ضرورية، لكنها كانت مختزِلة، نعم لكنها كانت سجناً.

فسأل نفسه: ماذا يحدث حين تُعرّف الصور مجتمعاً لا كما هو، بل فقط كما يعاني؟ ماذا لو تحوّل فعل التوثيق ذاته إلى قفص؟

من تلك الأزمة جاء القرار، التوقف عن إنتاج صور الحاضر، والبحث بدلاً من ذلك عن صور الماضي، ألبومات عائلية، صور زفاف، رسائل مكتوبة بخط اليد، صكوك ملكية – الخاص والمنزلي والمُهمَل، هذه المواد لا تمحو قصة الاضطهاد، لكنها تُعقّدها، وتوسعها، وتُعيد إنسانيتها.

هنا تتحول دراسات الشتات إلى بوصلة، يذكّرنا ستيوارت هول: الهوية ليست جوهراً بل موقعاً، أرشيف الروهينجا يعيد التموضع، يصرّ على رؤية المجتمع لا فقط كضحايا بلا دولة، بل كفاعلين لهم ماضٍ عميق وجذور راسخة ومستقبل مغتصب لكنه غير ملغى.

تحوّل كونستانتين من مصوّر إلى أرشيفي، تحول نادر في عالم التصوير الصحفي، درّب شباناً من الروهينجا في بنغلادش، في المخيمات وداخل ميانمار، في بوثيدونغ، في سيتوي، في يانغون لطرح الأسئلة، وللإصغاء، ولتصوير الوثائق، ولزرع الثقة.

كانت المنهجية ثورية في صبرها، قال لهم: “لا مواعيد نهائية، لا توقعات”. وهكذا بدأت المواد تظهر بهدوء، كحيوانات خجولة تخرج من الغابة رجل مسن يُخرج صكاً واحداً، يفرشه بعناية على الأرض، يتبعه حديث، تُبنى الثقة، ثم – تقريباً بطقس احتفالي – يختفي الرجل داخل كوخه ليعود بكيس بلاستيكي مليء بأوراق حُملت عبر الأنهار، وهُرّبت عبر الجبال، وخُبئت تحت الألواح.

ما ظهر لم يكن مجرد مقتنيات شخصية بل تاريخ عالمي، شهادة خدمة عسكرية من عام 1945 صادرة عن الحكومة البريطانية لرجل روهنجي يدعى “عبد السلام”، جواز سفر من عام 1949، مذكرات، رسائل، شهادات تعليم. روايات شفوية، طالما اعتُبرت أساطير وجدت الآن سنداً وثائقياً الروهينجا خدموا في “قوة V” البريطانية، كوكلاء استخبارات خلف خطوط اليابانيين في أراكان خلال الحرب العالمية الثانية.

وبينما كان كونستانتين يبحث في المكتبة البريطانية، صادف مذكرات عسكرية تصف الرجل ذاته، وفي صفحات كتاب قديم من عام 1945 صورة توضيحية بعنوان: “عبد السلام، زعيم أراكاني من بوثيداونغ”، كان التشابه غريباً، كأن الأرشيف نفسه كان ينتظر الاعتراف.

لاحقاً، عثر على أحفاد الضابط البريطاني الذي قاد مقاتلي الروهينجا، وفي علّيتهم حقائب مليئة بالصور والرسائل والمذكرات من بينها الصورة الوحيدة المعروفة لوحدة حرب عصابات روهنجية عام 1943، تقف مع قائدها البريطاني رافعين العلم البريطاني، تاريخ طالما أُنكر، فإذا به يطل من الورق والحبر.

كما يذكّرنا أشيل مبيمبي، البحث الأرشيفي دوماً عن السلطة من يُذكر، ومن يمحى، هنا عاد أرشيف الروهينجا إلى التاريخ العالمي، لا كضحايا بل كمشاركين.

من بين هذه الشظايا ظهرت خريطة الشتات، ذكريات روهينجا ظهرت في كاليفورنيا، في كراتشي، في إنديانا، في دبلن، رجل درس الهندسة في الولايات المتحدة شارك في اختراع جهاز موجات دماغية EEG بجامعة UCLA، طالب أُرسل إلى بيركلي عام 1954 أصبح فيزيائياً نووياً، عائلات درست في كلية العلوم المسلمة في السند، وفي جامعات في بريطانيا وماليزيا والسعودية.

هذه القصص تمزّق السردية الوحيدة للضحية، تُظهر مجتمعاً متشابكاً بعمق مع الحداثة، مع العلوم، مع الإنتاج الفكري، تُظهر الروهينجا كمساهمين، كمخترعين، كمواطنين عالميين.

إن “إيك خالي” ليس مشروعاً روهنجياً فقط، بل مشروع ذاكرة شتات بأسره، يذكّرنا أن اللاجئين ليسوا مجرد أناس مُهجّرين، بل أرشيفات مُهجّرة مبعثرة، متقطعة، لكنها مترابطة.

من أبرز لمسات المعرض التمييز بين الوثائق والصور العائلية، فصور الصكوك والشهادات والألبومات عُرضت على مستوى الأرض، كما فُرشت أول مرة حين كشفها أصحابها للمنسقين، لتصبح الأرض أرشيفاً ومذبحاً معاً: السطح الذي نُشرت عليه التواريخ وفُحصت وصُوّرت.

في المقابل، جُمعت الصور العائلية على الجدران في تشكيلات كثيفة، كما تُعرض صور الأجداد عادة في مقاهي قديمة أو مطاعم عائلية، تملأ كل مساحة بطبقات الذاكرة، من قرب لكل صورة قصة خاصة، ومن بعيد تصبح الكولاج قصة مجتمع كامل، هذا العرض المزدوج يحفظ خصوصية الحياة الخاصة بينما يضخم حضورها الجماعي، منسجماً مع جوهر معرض أرشيفي للتصوير الفوتوغرافي.

المعرض ليس عرضاً محايداً، بل فعل استعادة، إنه تنسيق ضد المحو، يصر على أن يتذكر الروهينجا لا فقط لطردهم، بل أيضاً لمثابرتهم، البحث الأرشيفي يعيد الذاتية، يحوّل اللاجئين من ظلال إلى شهود، يتحدّى محو الدولة، يؤكد الكرامة وكما يقول “إيك خالي”: “الوثائق لا تقتصر على البقاء؛ بل تُصر”.

(الكاتب: ناصف فاروق أمين، كاتب، وكاتب سيناريو، ومحترف في المجال الإبداعي، نُشر المقال في موقع “The Daily Star”، وترجمته وكالة أنباء أراكان)

شارك
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لوكالة أنباء أراكان

آخر الأخبار

القائمة البريدية

بالضغط على زر الاشتراك، فإنك تؤكد أنك قد قرأت سياسة الخصوصية الخاصة بنا.