كيف قسمت الصين ميانمار؟.. استراتيجية بكين لخلق الاستقرار من خلال التبعية

الزعيم الصيني شي جين بينغ يجتمع مع جنرالات ميانمار في تيانجين، الصين، أغسطس 2025 (صورة: Reuters)
شارك

بقلم: أمارا ثيها

بعد نحو خمس سنوات من الانقلاب العسكري الذي وقع في عام 2021 وأطاح بالحكومة المدنية، أصبحت ميانمار دولة شديدة التجزؤ، فقد أدت الحرب الأهلية التي أعقبت الانقلاب إلى مقتل الآلاف، وترك أكثر من 18 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية، واليوم لا تسيطر الحكومة المركزية الخاضعة للمجلس العسكري فعلياً إلا على أقل من نصف أراضي البلاد، بينما تتقاسم منظمات مسلحة عرقية وجماعات متمردة أخرى السيطرة على مساحات واسعة، وتديرها وفق قواعدها الخاصة.

هذا المشهد السياسي المفكك قد يؤدي نظرياً إلى حالة طويلة من عدم الاستقرار تهدد الاستثمارات داخل ميانمار وربما تمتد آثارها إلى دول الجوار، غير أن الصين، بوصفها الجار الأقوى والأكثر نفوذاً، لم تعد تنظر إلى هذا التفكك باعتباره خطراً وجودياً، على العكس، ترى بكين أن الفوضى واقع مستمر يمكن احتواؤه وإدارته، فخلال السنوات الأولى من الحرب الأهلية، تعاملت الصين بحذر مع كل من المجلس العسكري والجماعات المسلحة قرب حدودها، على أمل أن يتمكن المجلس العسكري من بسط سيطرته وتوحيد البلاد، لكن هذا الرهان تراجع.

اليوم، تسعى بكين إلى الحفاظ على نفوذها عبر استراتيجية مزدوجة: تقديم مساعدات اقتصادية وإنسانية مشروطة للمجلس العسكري من جهة، والضغط على المنظمات المسلحة العرقية للامتثال لمصالحها من جهة أخرى، وتستخدم الصين نفوذها الاقتصادي الواسع لإجبار الأطراف المتنافسة على التفاوض وفق شروطها.

الانتخابات التي بدأت في 28 ديسمبر من غير المرجح أن تقود إلى انتقال ديمقراطي حقيقي، وقد وصفها معظم المراقبين الدوليين بأنها غير حرة وغير عادلة، ومع ذلك تنظر الصين إلى هذه الانتخابات باعتبارها خطوة مهمة نحو إدارة البلاد، إذ تتيح تقنين نظام سياسي هجين يحتفظ فيه المجلس العسكري بالسلطة الفعلية خلف واجهة مدنية، ففي هذا النظام، يحتفظ القادة العسكريون برموز القوة، بينما يتولى البرلمان المدني المصادقة على الميزانيات والعقود، ما يوفر للصين استقراراً إدارياً وقانونياً أكبر لاستثماراتها.

لا تهدف هذه العملية إلى إنهاء التجزؤ في ميانمار، بل إلى تنظيمه بطريقة تقلل المخاطر على بكين، فالصين تعتقد أنها قادرة على التعايش مع دولة منقسمة طالما بقيت مراكز القوة الرئيسية معتمدة عليها في مجالات التجارة والطاقة والتنسيق الإداري، وبهذا لا تستطيع أي جماعة الوصول إلى الموارد الحيوية أو قنوات التجارة أو الموافقات الرسمية دون المرور عبر بكين.

حتى قبل انقلاب 2021، كانت منظمات مسلحة عرقية تسيطر على أجزاء كبيرة من البلاد، ومع تصاعد الحرب الأهلية، تعمق هذا التفكك. ففي أواخر عامي 2023 و2024، سيطرت عملية عسكرية مشتركة للمعارضة، عُرفت باسم “عملية 1027″، على أكثر من 40 مدينة ومركزاً إدارياً، ورغم الهجوم المضاد الذي شنه المجلس العسكري في 2025 بدعم من تفاهمات توسطت فيها الصين، لم يتمكن إلا من استعادة نحو 11% من المناطق التي فقدها في شمال ولاية شان.

وعلى الرغم من ضعف المجلس العسكري، فإن المعارضة لا تبدو قادرة على تحقيق نصر حاسم، بسبب الانقسامات الحادة بين حكومة الوحدة الوطنية في المنفى، وقوات الدفاع الشعبي، والمنظمات المسلحة العرقية المستقلة، كما أن الصراعات الداخلية على الموارد والعائدات أضعفت محاولات بناء استراتيجية موحدة لإسقاط الحكم العسكري.

تستفيد الصين من هذا الواقع المجزأ عبر إقامة علاقات مباشرة مع كل من مجلس ميانمار العسكري والجماعات المسلحة الأكثر نفوذاً، بهدف تأمين وصولها إلى المعادن الأرضية النادرة والممرات البرية المؤدية إلى المحيط الهندي، ففي عام 2023، أصبحت ميانمار أكبر مورد خارجي للصين للمعادن النادرة الثقيلة، التي تُستخرج أساسًا من مناطق تسيطر عليها منظمات مسلحة في ولايتي كاشين وشان.

كما تسعى بكين إلى تعزيز الممر الاقتصادي الصيني – الميانماري، الذي يربط مقاطعة يونان بميناء كياوكفيو في ولاية أراكان، ورغم أن الحكومة المركزية تدير الميناء رسمياً، فإن جيش أراكان يفرض سيطرة فعلية عليه، إلا أن اعتماد المشروع على التمويل والاستثمار الصيني يمنح بكين نفوذاً حاسماً.

أظهرت التجربة للصين أن الاتفاقيات المؤقتة مع الجماعات المسلحة غير كافية لدعم استثمارات طويلة الأجل، لذلك تسعى إلى أطر قانونية وطنية تمنحها ضمانات أكبر، ويؤدي ذلك إلى خلق تبعية متبادلة بين المجلس العسكري والجماعات المسلحة، ما يجعل الطرفين بحاجة إلى دعم بكين.

يساعد الهيكل البيروقراطي الصيني، الذي يوزع الأدوار بين المؤسسات المركزية والفروع المحلية في مقاطعة يونان، على إدارة هذا التعقيد، فبينما تتولى وزارة الخارجية العلاقات الرسمية، تعمل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المحلية على الأرض لإدارة العلاقات مع الجماعات المسلحة، وتنظيم التجارة والطاقة، وفرض التهدئة عند الضرورة.

في النهاية، لم يعد السؤال الرئيسي في ميانمار يدور حول استعادة الوحدة الوطنية، بل حول قدرة الصين على الحفاظ على نظام قائم على التجزؤ الدائم، ورغم أن هذا النهج يمنح بكين نفوذاً واسعاً، فإنه ينطوي على مخاطر كبيرة، إذ إن إضعاف الحكومة المركزية أكثر من اللازم قد يؤدي إلى انهيار الدولة بالكامل، وما يصاحبه من فوضى وتدفقات لاجئين وجرائم عابرة للحدود. ومع ذلك، تراهن بكين على قدرتها في الحفاظ على توازن دقيق يحقق مصالحها رغم استمرار الاضطراب.

(الكاتب أمارا ثيها، باحث دكتوراه في معهد أبحاث السلام في أوسلو، ويحمل درجة الماجستير في التاريخ والمعلوماتية من جامعتي أوبسالا وأوريبرو في السويد، كُب المقال بموقع “Foreign Affairs” وترجمته وكالة أنباء أراكان).

شارك
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لوكالة أنباء أراكان

آخر الأخبار

القائمة البريدية

بالضغط على زر الاشتراك، فإنك تؤكد أنك قد قرأت سياسة الخصوصية الخاصة بنا.