بقلم: غلام زكريا
في تقريرها الأخير بعنوان “بنغلادش- ميانمار: مخاطر التمرد الروهنجي”، تصوّر مجموعة الأزمات الدولية (ICG) محنة الروهينجا من زاوية التهديد الأمني المحتمل، محذّرة من تمرد متصاعد وآثاره المترتبة على بنغلادش. ورغم أن منع النزاعات هدف نبيل، إلا أن نبرة التقرير وافتراضاته الأساسية قد تسهم في تأجيج الذعر الأمني وتحميل اللوم لطرف لا يستحقه شعب عديم الجنسية، مضطهد، يكافح للبقاء في ظل واحدة من أبشع الظروف الإنسانية في عصرنا، والأسوأ من ذلك أن مثل هذا الخطاب قد يمنح المجلس العسكري في ميانمار ومؤيديه المزيد من الذرائع لتأجيل العدالة.
ما تصفه مجموعة الأزمات الدولية بـ”تهديد تمرد متصاعد” ليس سوى رد فعل مأساوي على عقود من الإبادة الجماعية الممنهجة، والفصل العنصري، والحرمان من الحقوق، وأي تحليل منصف يجب أن يبدأ بالأسباب لا بالأعراض، وبدلاً من تضخيم المخاوف من التطرف دون وضعها في سياقها، علينا أن نسأل ما هو العنف البنيوي الذي ولّد هذا اليأس؟.
أخطر إخفاق في التقرير هو صمته شبه الكامل عن الفظائع التي يرتكبها “جيش أراكان”، فمنذ أوائل عام 2023، أصبح هذا الجيش الحاكم الفعلي في أجزاء من ولاية أراكان، وشنّ موجة عنف واسعة ضد الروهينجا، شملت القصف العشوائي، والهجمات بالطائرات المسيرة، والتهجير القسري، وتفريغ القرى من سكانها.
أكثر من 100 ألف من الروهينجا فروا من مناطق سيطرة الجيش، وتم تسليم أراضيهم لمستوطنين من الراخين في عملية تغيير ديمغرافي واضحة، ومع ذلك يقلل التقرير من أهمية هذه الانتهاكات، ويُسلّط الضوء بدلاً من ذلك على الروهينجا أنفسهم باعتبارهم “قوة مهددة للاستقرار”.
هذا الإطار يكرر خطاب الدعاية القديمة الذي روّج له جيش ميانمار والقوميون الراخين: لوم الضحية لا الجلاد، ومن خلال التركيز على مجموعات مثل “جيش إنقاذ الروهينجا أراكان” (ARSA)، دون الإشارة الكافية للعنف البنيوي والمستمر من قبل “تاتماداو” و”جيش أراكان”، فإن التقرير يمنح دون قصد شرعية للرواية التي يستخدمها من شرد وقتل ودمّر هذا الشعب.
علاوة على ذلك، فشل التقرير في التمييز بين الجريمة الفردية، والتجنيد القسري في العصابات، وبين التمرد السياسي المنظم، حتى استخدامه لمصطلح “تمرد” يفتقر إلى الدقة، حيث يساوي بين عنف البقاء في مخيمات اللاجئين وبين حركات جهادية عابرة للحدود، وهو تبسيط خطير سياسياً وأخلاقياً، فهل من المستغرب أن ينزلق بعض الشباب المحبطين المحرومين من التعليم والمواطنة وحق العودة إلى التطرف؟.
صحيح أن التوترات تتزايد بين لاجئي الروهينجا والمجتمعات المضيفة في كوكس بازار، لكن التقرير يخطئ في تحديد مصدر الأزمة، نعم المواطنون البنغاليون يتحملون أعباء ثقيلة من اضطرابات اقتصادية وتنافس على الموارد وضغط اجتماعي، ولكن بدلاً من تحميل المجتمع الدولي وميانمار مسؤولية استمرار المأساة يوحي التقرير بأن المساعدات الإنسانية للروهينجا قد تكون جزءاً من المشكلة!.
هذه المقاربة تُغذي المشاعر المعادية للاجئين، وتنتقص من الصبر الذي أظهره المواطنون البنغاليون والسلطات خلال السنوات السبع الماضية، فبنغلادش، الدولة النامية ذات الموارد المحدودة، استضافت ما يقرب من مليون لاجئ روهنجي بجهودها الذاتية، واعتبارها “بؤرة محتملة للتطرف” هو أمر مجحف ويشوه الواقع.
كما يُقلل التقرير من الجهود التي تبذلها الحكومة البنغالية وأجهزتها الأمنية، والتي تسعى للحد من العنف داخل المخيمات دون المساس بالوصول الإنساني، نعم توجد تحديات مثل الجريمة والاتجار والمخاطر الأمنية، لكنها أعراض لحالة انعدام الجنسية والإهمال الطويل، وليست دليلاً على تمرد مسلح.
المقلق أيضاً هو تجاهل التقرير لدور الأطراف الإقليمية والدولية، فقد دأب جيش ميانمار على استخدام مصطلح “إرهابيين” لنزع الشرعية عن وجود الروهينجا، وعندما تردد مجموعة الأزمات الدولية هذا الخطاب دون سياق كامل، فإنها تصبح دون قصد شريكة في رواية الجلاد، وهناك تقارير تشير إلى أن الجيش يدعم جيش أراكان سراً لعزل الروهينجا وتجريدهم من أراضيهم، هذه التحالفات والديناميكيات الجيوسياسية والإخفاقات الدبلوماسية لم تحظَ بما يكفي من التحليل في التقرير.
الهند، والصين، وروسيا، ما تزال توفر الغطاء السياسي لميانمار، و”توافق النقاط الخمس” الذي تبنته رابطة آسيان انهار فعلياً، أما الحكومات الغربية فلم تترجم وعودها إلى موارد فعلية، ولا شيء من ذلك يظهر بشكل بارز في تقرير مجموعة الأزمات، التي اختارت التركيز على “التهديد المتخيّل” بدلاً من العنف الحقيقي الواقع على الروهينجا.
والأخطر من كل ذلك أن هذا الخطاب له تبعات عملية، إذ يبرر سياسات الحصار والإقصاء مثل تطويق المخيمات، وتقييد حرية التنقل، ونقل اللاجئين قسراً إلى جزيرة بهاسان تشار، ويشجع على حلول قمعية مثل الرقابة المشددة، وتسييس المساعدات، وتقليص المساحة المدنية، وهذه الإجراءات لا تحل الأزمة، بل تعمقها.
إذا كان الهدف هو منع التطرف، فإن الحل ليس المزيد من الإجراءات الأمنية، بل استعادة الكرامة. ويشمل ذلك إطاراً لإعادة اللاجئين قائماً على الحقوق يضمن المواطنة والحماية والتعويض وليس “مشاريع تجريبية” جوفاء ترعاها الصين، ومحاسبة دولية حقيقية تشمل الملاحقات أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، ومساعدات مستدامة للروهينجا والمجتمعات المضيفة فالتهميش هو سبب التوتر لا مجرد وجود اللاجئين، والاعتراف بهوية الروهينجا وثقافتهم وصوتهم، كثير من “الحلول” تُصمم من أجل الروهينجا لا معهم.
تُقرأ تقارير مجموعة الأزمات الدولية في واشنطن، ونيودلهي، وبروكسل، ودكا، وهي تُشكّل استجابات العالم للأزمات، لكن حين تُعطي الأولوية للتهديدات المفترضة على حساب العنف الهيكلي الحقيقي، فإنها تصبح جزءاً من المشكلة، لا يجب أن نسمح للخوف أن يحل محل العدالة.
أطفال الروهينجا الذين وُلدوا في بنغلادش يكبرون في أقفاص بلا وضع قانوني وبلا تعليم رسمي وبلا أمل، وإذا سمناهم بـ”متمردين محتملين” بدلاً من اعتبارهم ناجين من إبادة بطيئة، فإننا نخذلهم ونخذل المبادئ التي يقوم عليها القانون الدولي.
(الكاتب: غلام زكريا صحفي وكاتب عمود من بنغلادش، يكتب في شؤون السياسة وحقوق الإنسان والعدالة الدولية في جنوب آسيا).