دخلت واشنطن في مرحلة جديدة ومشجعة من الانخراط السياسي تجاه ميانمار، في وقت بات مستقبل البلاد مهدداً بصورة غير مسبوقة، فقد شهد هذا الأسبوع تحولاً واضحاً في لهجة المشرعين الأمريكيين الذين أعادوا طرح قانون بورما بجدية أكبر تعكس حجم الأزمة المتفاقمة، وبعد سنوات من الجمود، يبدو أن الولايات المتحدة بدأت في مواءمة التزامها الأخلاقي مع خطوات عملية يمكن أن تحدث تأثيراً ملموساً على أرض الواقع، وهو تطور ضروري وملح.
تشهد ميانمار تحولات عميقة منذ أن استولى جيش ميانمار (المجلس العسكري) على السلطة في عام 2021، إذ يتعرض لضغوط متزايدة من قوات المقاومة العرقية والجماعات المؤيدة للديمقراطية، وفي ولاية أراكان، تتدهور الأوضاع الإنسانية بشكل حاد، حيث يواجه الروهينجا قيوداً صارمة على الحركة ونقصاً في الغذاء وارتفاعاً في مستويات انعدام الأمن، ويتزامن ذلك مع أزمة اقتصادية متصاعدة تهدد بانهيار شامل، وتزيد من اعتماد مجلس ميانمار العسكري على عائدات الشركات الحكومية لتمويل عملياته.
دفعت هذه التطورات واشنطن إلى إعادة تقييم أدوات سياستها، والبحث في كيفية استخدام نفوذها بشكل أكثر فعالية وبالتنسيق مع شركاء دوليين، للتخفيف من وطأة المعاناة وتعزيز مسار أكثر استقراراً في البلاد، وما يميز النقاشات الأخيرة هو الروح البنّاءة التي باتت تسيطر على مقاربة واشنطن لقانون بورما، حيث لم يعد يُنظر إليه كأداة عقابية بحتة، بل كجزء من رؤية شاملة تهدف إلى تعزيز وصول المساعدات الإنسانية وتقليل العنف وتوسيع مساحة المشاركة السياسية، ويعكس ذلك إدراكاً متزايداً بأن الولايات المتحدة يمكنها لعب دور مؤثر من خلال العمل مع شركاء إقليميين يشاركونها القلق حول مستقبل ميانمار.
ويأتي هذا التحول في لحظة حساسة بالنسبة للروهينجا، الذين ما يزالون أحد أكثر الشعوب تعرضاً للاضطهاد في العالم، بينما تزداد معاناتهم داخل ولاية أراكان نتيجة القيود على الحركة ومنع المساعدات، وفي بنغلادش، تراجع التمويل الدولي بشكل حاد، مما يهدد نحو مليون لاجئ روهنجي بمزيد من الجوع وانعدام الأمن، ويحذر خبراء من أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية للروهينجا خلال جيل واحد.
وتبرز أهمية القيادة الأمريكية في هذا السياق، إذ إن تحركات واشنطن الواضحة عادة ما تدفع الحلفاء والشركاء الإقليميين إلى تعزيز مستويات التنسيق، ويمكن لمقاربة مدروسة تعتمد على قانون بورما أن تسهم في تحسين وصول المساعدات الإنسانية، وتشجيع المفاوضات بين الأطراف المسلحة، ودعم منظمات المجتمع المدني التي تلعب دوراً مهماً في المناطق الخارجة عن نفوذ المجلس العسكري.
وتشير التحليلات إلى أن نجاح هذا النهج يتطلب الجمع بين الضغط الاقتصادي والدبلوماسية ودعم الحركة الديمقراطية في ميانمار، إذ تكون الضغوط الاقتصادية أكثر فاعلية عندما ترتبط بأهداف إنسانية واضحة، بينما يستحيل تحقيق تقدم ملموس دون تعاون دول المنطقة مثل بنغلادش والهند وتايلاند وإندونيسيا، ويظل دعم منظمات المجتمع المدني ضرورة لتعزيز قدرة الفاعلين الديمقراطيين على إدارة المناطق وتقديم الخدمات واكتساب الشرعية.
ومن المرجح أن يكون العام المقبل حاسماً في مسار الأزمة، فالمجلس العسكري يخطط لإجراء انتخابات لا يمكن أن تكون حرة أو نزيهة في ظل الظروف الحالية، في الوقت الذي تحقق فيه قوى المعارضة تقدمًا في بعض المناطق. وفي هذا السياق المتقلب، يمكن للولايات المتحدة أن تلعب دوراً مهماً في تقليل الضرر الواقع على المدنيين وتمهيد الطريق نحو تسوية سياسية أكثر شمولاً، دون أن تتحمل وحدها عبء حل الأزمة.
ورغم قتامة المشهد، لا تزال لدى الولايات المتحدة فرصة للتأثير الإيجابي، فالأزمة التي تتفاقم في ولاية أراكان وفي أنحاء ميانمار ليست حتمية، ويمكن الحد من آثارها عبر جهد دولي منسق تقوده واشنطن، ويشير الزخم المتزايد حول قانون بورما إلى استعداد أمريكي لاستعادة دور بنّاء يقدم بارقة أمل للروهينجا ولشعوب ميانمار، وفي عالم تتراجع فيه المبادئ كثيراً أمام المصالح، يظل التدخل القائم على القيم الإنسانية قادراً على إحداث فارق حقيقي.


