واجه الروهينجا في ميانمار فظائع جسيمة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية المنهجية على يد المجلس العسكري الحاكم، وذلك على مدى عقود، وخاصة خلال الحملات العنيفة في عام 2017 وما تلاها من سنوات، والتي صنفتها منظمات حقوقية ومراقبون دوليون على أنها تطهير عرقي وإبادة جماعية.
تضمنت هذه الحملات عمليات قتل جماعي، وحرق قرى، واغتصاب، وترحيل قسري، بالإضافة إلى الاعتقالات الجماعية وتدمير منازل وسبل عيش الروهينجا بشكل ممنهج، وتشير تقارير حديثة إلى تعمد حرمان الروهينجا من الغذاء والإمدادات الأساسية، مما فاقم أزمتهم الإنسانية، شئنا أم أبينا، فإن الروهينجا اليوم هم من المنسيين والمهمشين تماماً على هذه الأرض.
حتى “أونغ سان سو تشي” تعرضت لانتقادات واسعة بسبب موقفها من هذه الفظائع، أو بالأحرى بسبب تجاهلها لها، فقد أنكرت علناً حجم العنف، ولم تُدِن الجيش أو تحاول منعه، مما أدى إلى اتهامها بالتواطؤ أو الإهمال في التعامل مع الإبادة الجماعية، ووصل الأمر إلى مطالبة البعض بسحب جائزة نوبل منها.
تشكل هذه الأفعال مجتمعة حملة متعمدة لمحو وجود الروهينجا، وتعكس نمطاً من الاضطهاد المنهجي والإبادة الجماعية، وفي عصر العناوين السريعة والغضب العابر، لم تبقَ قضية في العتمة طويلاً كما بقيت مأساة الروهينجا شعب غير مرغوب فيه في أرض ميلاده، وغير مرحب به في الأرض التي يكافح للبقاء فيها، عالقون بين الإقصاء الوحشي لميانمار وكرم ضيافة بنغلادش المثقل بالأعباء، يعيش أكثر من مليون روهنجي بلا جنسية، بلا صوت، بلا غذاء، ويزدادون يأساً كل يوم، واستمرار معاناتهم ليس لأن العالم عاجز عن مساعدتهم، بل لأنه يفتقر إلى الإرادة.
ليست محنة الروهينجا جديدة، فقد عانوا التمييز الممنهج بصدور قانون الجنسية لعام 1982، الذي جردهم من هويتهم القانونية، ووصمهم كـ”مهاجرين غير شرعيين” من بنغلادش، رغم أنهم عاشوا لأجيال في ولاية أراكان، وتكررت موجات الاضطهاد من تهجير وحرق واغتصاب وقتل جماعي مما دفع بالكثيرين للفرار إلى بنغلادش.
ورغم أن موجة اللجوء الكبرى في 2017 أثارت سخطاً دولياً، فإنها لم تدفع إلى اتخاذ إجراءات حقيقية، واليوم يعيش الروهينجا في مخيمات مكتظة في كوكس بازار، معتمدين على المساعدات، ومحرومين من العمل والتنقل والكرامة، وبينما أظهرت بنغلادش تعاطفاً تاريخياً باستضافتها لأكثر من مليون لاجئ رغم محدودية الموارد، فقد تغيرت سياساتها مؤخراً، وبفعل الضغوط الداخلية والتأثيرات الإقليمية، تتبنى الحكومة الحالية نهجاً أكثر حذراً، يركز على الاحتواء وإعادة التوطين الطوعي، بدلاً من الانفتاح السابق، مما يعكس موقفاً أكثر تردداً تجاه هذه الأزمة المستمرة.
لكن من غير المنطقي أن تتحمل دولة مضيفة عبء التاريخ وحدها، فهذه الأزمة لم تعد فقط عار ميانمار أو عبء بنغلادش، بل باتت اختباراً لإنسانية العالم بأسره، وعلى هذا الاختبار، يفشل المجتمع الدولي تماماً.
لماذا لم يُفعل الكثير؟ للأسف، ليس السبب الجهل بل العجز، فقد وصفت الأمم المتحدة مراراً وضع الروهينجا بأنه “مثال كلاسيكي للتطهير العرقي”، بل ذهبت تحقيقات مستقلة إلى وصفه بـ”الإبادة الجماعية”، ومع ذلك فإن كلمات الأمم المتحدة لم تترجم إلى أفعال بسبب السياسة، ولا سيما العرقلة المعتادة من الصين وروسيا في مجلس الأمن.
هاتان الدولتان دأبتا على تعطيل أو تخفيف أي قرار لمحاسبة ميانمار، تحت غطاء “السيادة” و”عدم التدخل”، عرقلتا فرض العقوبات، ورفضتا التحقيقات الدولية، بل ووفرتا الحماية الخطابية لميانمار. والنتيجة إفلات الجناة من العقاب، وبقاء الضحايا في مأساة لا نهاية لها، لكن في نهاية المطاف، فإن الأمم المتحدة ذاتها أصبحت تزداد تهميشاً.
دعونا نكون واضحين هذا ليس حياداً مبدئياً، بل فشل في القيادة الأخلاقية، فالسيادة ليست رخصة للاضطهاد العرقي، وحجب الجرائم خلف ستار “عدم التدخل” ليس حلاً استراتيجياً، بل مشاركة ضمنية في الجريمة، ما يجري هو شكل بطيء من محو جماعي، يبدو منسجماً بشكل مقلق مع السياسات الرسمية لكل من الصين وروسيا فيما يخص ميانمار.
والأسباب ليست خفية ميانمار دولة مجاورة، وسوق، وشريك استراتيجي، موانئها وأنابيبها تهم بكين في مشروع الحزام والطريق، ونظامها يشتري الأسلحة من موسكو، وكلا البلدين ينظر بريبة إلى التدخلات الإنسانية الغربية، مستحضرَين مرارة العراق وليبيا، لكن السماح لهذه الحسابات الجيوسياسية بأن تطغى على معاناة شعب مضطهد ليس “واقعية سياسية”، بل تخلي مروع عن القيم.
ومن هنا، نداء للضمير لا للمصالح إلى الصين وروسيا لا تسمحوا لصمتكم بأن يلطخ مكانتكم الدولية، لا تجعلوا تاريخكم يرتبط بالتطهير العرقي، استخدموا نفوذكم لتمكين العدالة لا عرقلتها، طالبوا بإعادة الروهينجا فقط حين تكون آمنة وطوعية وكريمة، ادفعوا نحو إصلاح قوانين الجنسية في ميانمار، لا لإرضاء الغرب بل من أجل استقرار المنطقة وكرامة الإنسانية وكرامتكم أنتم.
أما المجتمع الدولي الأوسع، فقد ولى زمن الرمزية، الروهينجا لا يحتاجون شفقة بل سياسة، والحل الدائم لن يأتي بالخطابات، بل بتحرك منسق على خمسة محاور:
العودة الطوعية يجب أن تظل الهدف، لكن ليس في ظل الظروف الحالية، يجب على ميانمار ضمان الجنسية والأمن والحقوق، إلى حين تحقق ذلك لا يجوز إجبار أي لاجئ على العودة، وأي عودة تجريبية يجب أن تكون طوعية وتحت مراقبة صارمة.
دعم بنغلادش أمر لا بد منه، يجب على المانحين زيادة الدعم لا تقليصه، ويجب منح الروهينجا في المخيمات مقومات حياة كريمة التعليم للأطفال، والتدريب المهني للشباب، وإتاحة فرص عمل مدروسة، ليس هذا دمجاً خفياً بل استثمار في استقرار المنطقة.
إعادة التوطين في دول ثالثة، وإن لم تكن حلاً شاملاً يجب أن تُستأنف للفئات الأشد ضعفاً، وعلى الدول الغربية ودول الخليج والدول الآسيوية المجاورة أن تقوم بدورها حتى الأعداد الرمزية منها تُخفف العبء وتمنح الأمل.
محاسبة ميانمار لا يجب أن تقتصر على المناشدات، ويجب الاستمرار في فرض عقوبات مستهدفة على النخبة العسكرية، وفرض حظر أسلحة، وملاحقات جنائية دولية، كما يجب على “آسيان” التوقف عن مداهنة النظام، فلا شرعية لنظام يُهجر شعبه قسرياً، لا يمكن أن يُصبح تطهير الروهينجا أمراً عادياً.
وأخيراً وربما الأهم تغيير السردية، يجب ألا يُنظر إلى الروهينجا كـ”مشكلة” يجب إدارتها، بل كـ”أشخاص” يجب حمايتهم، إنهم ليسوا غزاة بل ضحايا، ليسوا عبئاً بل بشرٌ مثلنا لهم آمال وتاريخ وعائلات ومستقبل، يجب أن تُروى قصتهم لا في التقارير فحسب، بل في المناهج الدراسية والإعلام وصنع القرار السياسي.
الحقيقة أن الروهينجا ظلوا بلا جنسية لفترة طويلة حتى فقدوا الإيمان بالخلاص القريب، لكن “العدالة المؤجلة” لا تعني بالضرورة عدالة مرفوضة، وقد يكون قوس التاريخ طويلاً لكننا نحن من يثنيه نحو العدالة أو لا الخيار بأيدينا.
في عام 1945 قال العالم “لن يحدث مرة أخرى”، وفي عام 1994 بعد إبادة رواندا كررها، أما الآن في عام 2025 ومليون روهنجي محاصرون في هامش الجغرافيا والسياسة فإن العالم يراقب وينتظر، فلنكن هذه المرة على قدر المسؤولية، وإلا فإن الإنسانية لن تُحكم عليها برحمة في صفحات التاريخ.
(الكاتب: ڤي راغوناثان أستاذ سابق في المعهد الهندي للإدارة في أحمد آباد، ومؤلف له أكثر من 16 كتابا ونشر له أكثر من 600 مقال، نُشر المقال بموقع “Times of India” وترجمته وكالة أنباء أراكان).